ثقب في عربة التسوق

٩ يوليو ٢٠٢٤
Othman Aziz
ثقب في عربة التسوق

مقال ثقب في عربة التسوق للكاتبة نجلاء عواد كاتبة كتاب عشرون قبل العشرين


تدرج الشراء عبر التاريخ ككل شيء، في البداية كانت العلاقة قائمةً بين طرفين هما البائع والمشتري، بينما الآن على كفة المشتري يقابله المسوقون، والمؤثرون، والدعايات، يبدو ميلانها لصالحهم بينًّا؛ ومن ثم يمكن نعت عملية الشراء هذه بالكثير من الصفات أبرزها، الغموض، الاندفاع أو التسرّع، والإدمان، بينما قديماً اتسمت بالوضوح. وبسبب صغر منازلهم، وقلة الإنتاج، وطول المدة المستغرقة في نقل البضائع، أجادوا مفهوم الانتفاع من السلع، في استهلاكها، وتدويرها وربما اُستخِدَمت لأغراض عدة، وهذا يضفي قيمة على عملية الشراء والامتلاك لا نشعر فيها. وفي حين كانت العملية، قائمة على الانتفاع والوضوح واليسر، كان المشتري يستشعر اختياره ومسؤوليته الكاملة. بينما الآن ملايين المستهلكين، في وهم انهم يبتاعون تلك السلع لأنفسهم، ويعتقدون انهم يدللونها، رغم انه لا يمكن الجزم بان عملية الشراء تمت بلا تحريض من الأطراف المستفيدة.

 تنقسم عملية الشراء الى شطرين، متعة وانتفاع. في الماضي لم تكن عملية التسوق ممتعة في حد ذاتها، فالمحلات متلاصقة، والبضائع متكدسة، منكشفة وعرضه للمؤثرات الجوية، حتى تصميم السوق كان معداً للعبور، وليس لتبادل الأحاديث وطول المكوث، فكان يجتمع للمشتري المتعة والانتفاع بعد امتلاكه للسلعة. 

 أما الآن انفصل مفهوم المتعة عن الانتفاع، وبات الكثيرون يستمتعون بعملية الشراء في حد ذاتها، دون أن ينتفعوا من السلعة، ويدعم ذلك تصميم السوق وكيف تحول من العبور الى مقر للقاءات، واحتساء المشروبات، وتناول الأطعمة، وغيرها من المتع التي سعوا جاهدين كي يحتضنها مفهوم التسوق، وعلى اثر الاكتفاء بشطر المتعة تكدست المشتريات، ودّبت سوسة الملل منها قبل استعمالها، )أتساءل عن حال المقتنيات المنسية إن نطقت.!(  فتخزينها مع تأجيل استخدامها أو إهمالها يسبغ عليها حالة من القدم أو الألفة، فالإنسان بفطرته مّيال للاعتياد، ويألف ما يتعاده بسرعة، لذا قد تكمن مشكلته في قبول الألفة، وتجديد شعوره نحو مقتنياته بدلاً من معالجة الملل بمزيد من الاستهلاك. حيث إن الفتور الناتج عن امتلاك السلعة، وحالة الملل من ثيابك وحقيبتك وحذائك وسيارتك...الخ، شعور من داخلك ناتج عن فكرة من خارجك، أن الملل من ممتلكاتك مسلمةً لابد منها، والواقع أن تضخيم الملل، واجتثاثه كشعور منفصل عن الحالة النفسية الطبيعية للإنسان، ومن ثم بذل جهد للتعامل معه وإسكات صوته، من خلال تكرار الشراء، سيدخل الفرد في دوامة ملل مستمرة، مغيّب عن الحقيقة وهي أن الشعور لطالما كان قرينًا مع آخر، ملل يرافقه يأس، أو ملل مع إحباط، وغيرها من الأحاسيس فلماذا يجتث الملل عن أقرانه؟ وحين يعلو صوته الممزوج بالندم مع إصرار على ترك عادة او تغيير صفة، يجد المرء نفسه على حين بغتة قد غّير ثيابه أو أثاثه بدًلا من نفسه.! ولو ارخينا العقول المتصّلبة عوًضا عن الأيدي المنفردة للشراء، وأجدنا الإنصات، لتَرْكنا ممتلكاتنا وشأنها، وتعاملنا مع انفسنا بدًلا منها. إذ إن كل امتلاك لا يؤول إلى الاستغناء، دليل على نقصانه، وثغرة في اختياره، فالعمل الكافي يغني الفرد عن الأعمال الأخرى، وينطبق ذلك على المقتنيات وضرورة تحقيقها لاكتفاء طويل الأمد، حتى تغني الفرد عن الاستهلاك المستمر. وهذا ما يدعى بمفهوم الامتلاك السليم. أتساءل هل الوصول إلى حالة الملل من المقتنيات هو الاكتفاء منها؟ أي هل الملل نتيجة للاكتفاء؟ هل الشبع من وجبة ملل؟ هل الاكتفاء معنى لنهاية الطريق أم تأمله اكثر مما ينبغي؟ أظن أن المشكلة تكمن في الرؤية، فالنظر إلى الثياب والأثاث وغيرها باعث على الجمال، والجمال يسفر عن انتباه وانصياع. لذا قلب عملية الاستهلاك النابض ترتفع حدته بالملل وتنخفض بالاكتفاء، والرؤية الحادة تغذي الملل، بينما النظرة العابرة أو المغمضة تحقق الاكتفاء. ناضلت الشركات لمحو معيار الحاجة إلى الشراء، حتى غابت الحقيقة عن الفرد، وهو أن تكرار الشراء لابد أن يكون نتاجاً لحالة اهتراء أو حلول مناسبة كالأعياد، والحفلات وليس الملل.

اباؤنا يذكرون جيداً متعة امتلاك الثوب الجديد، ورغم مرور الزمن يستحضرون تلك الذكرى بنوع من الغبطة، وهذا ملمح على أن متعة الاقتناء تدوم، ويطول عمرها في تقنينها، وليس الاستزادة منها. لكن تحضر الشراهة في التسوق حين يكون اعتباطياً دون البحث عن مفهوم الاقتناع في الاقتناء، مثلاً فيما يخص الفساتين، لا بد أن تقلبه الواحدة متسائلة كم سيبلغ من العمر معها؟ إن كان زمنه قصيراً، فقد صمم لأغراض الموضة التي سرعان ما تتبدل. وقد وقعت في فخ الاستهلاك، تؤكد هذا المفهوم كوكو شانيل، ففي بداياتها كانت تصمم الفساتين التي تدوم طويلاً، وتبقى محافظة على أناقتها مهما تقادم عهدها، ويدعم ذلك ويليام موريس الذي قال ان أهم دليل إلى الاستهلاك الجيد هو” ألا تمتلك في بيتك شيئًا لا تعلم له نفعاً، أو لا تجد فيه جمالًا” حيث إن تحقيق الانتفاع من السلع هو جوهر مفهوم عملية الشراء المتوازن، والانتفاع مرهون بفعل واحد وهو الاستعمال. كل هذا يفضي إلى أهمية التمهل والقناعة عند الشراء، لكن بسبب السرعة في الإنتاج وخطوط الإمداد، لم تواجه الشركات سوى عقبة واحدة، وهو تغيير سلوك المستهلك، فزرعت الكثير من الأفكار والعادات، مثل: اقتران بعض العلامات التجارية بالثراء، وضرورة تغيير الثياب عند كل مناسبة، ومن إقامة عروض للأزياء، وموضة سنوية وموسمية، وقد نجحت في مسعاها حتى صارت القدرة على اتخاذ القرارات في ادنى مستوياتها، لذا التسوق معركة غير متكافئة، بالإضافة إلى الأطراف المذكورة أعلاه، غياب عقل المستهلك هو الباب المخلوع الذي يجعله ضحية يوجهونه نحو الأغراض التي سينفق عليها، رغم أنه صاحب المال، فالشركات لا تراهن على الرغبة في الشراء، وإنما على جذبهم لمنتج بعينه، لأنها انتهت من فصل إقناعهم للانكباب على التسوق.

 ثم ان القرآن الكريم حدد ملامح عامة لشخصية السفيه من ضمنها فشله في إدارة المال، فالقدرة على التخطيط، والمسؤولية، والإدارة، كلها تؤثر في تشكيل رؤية المرء لنفسه ونظرة من حوله له.

أما الشراء بلا سبب وبوتيرة متكررة قد تؤدي إلى الإفلاس أو الاقتراض، كل هذه العلامات عرض لمرض نفسي أو إدمان بلغ ذروته ولا بد من علاجه. لقد حقق غايتهم، وفقد الفرد في دوامة الاستهلاك صفات جوهرية، للحصول على أغراض خارجية وسمات شكلية، حتى استفحل هوسه، وبلغ حافته في عصرنا، حين ساد الشراء بالأقساط، وهي صفقة مغرية كرحلة مدفوعة مالها مفزع، او كصديق منافق، فخ يحمل أشهى وجبة، وأمنية بعد احتضانها تسقط حصى صغيرة على رأس صاحبها. حين يعلو صوت الحاجة والرغبة، يلبّي النداء من خلال غياب الفكر.

هي الوهم الذي يصّور لكل فرد امتلاك ما يريد، لكنها عند آخر الشهر لاتسنده كيف يدير كل ما أراد. تحّرض على شراء المزيد، وكلما ليس بحاجته، من خلالها تغيب الألفة مع الأشياء، وأّي شطب أو كسر لا يجبر بل ُيلقى.

حين يعيش المرء تابع لفكرة الأقساط، تنقض عليه، وتعيد تشكيله، تجعله اكثر نهًما، وتسلب سلطته على شهواته ورغباته، يصير عبدها، وتختلط احتياجاته برغباته، حتى صارت كل رغباته حاجات. يتغير بمرور الوقت من شخص معطاء إلى مسلوب، عطاؤه ينّصب في صالح الممولين، يتحول من منظم إلى عشوائي، ينتقل سيره من سطح الأرض إلى عمقه وتدافع حاجاته، حتى يتشكل إلى أحد جنودها ساعًيا لتحويل كل شيء إلى دفعات مقسمة على مدى سنة، أو اثنتين وعشر، فلم يعد بوسعه دفع مبلغ السلعة كامًلا، لأنه عاجز أو تسنده فكرة واهمة أنه يقتصد، والواقع أنه فقد التخطيط والقدرة على التوفير، وصار مجبًرا على الشراء بهذه الطريقة، ومن ثم بعد الغرق بأقساط تسحب كلما يودع، يتغير تفكيره، ويكون منّصبًا حول المال وكيف يجني أكبر قدر منه، ويختزل السعادة فيه، يتحول من ذلك الذي كان معتدًلا، ويكنز قرشين ليشعر بالأمان المادي، الى إنسان جشع، فاقد لراحة البال، حيران طوال الشهر بتقسيم دخله ما بين حاجاته، والجهات التي تمد يدها ولسانها في ان.

أتساءل ما الذي يلزم لتغيير مستقبل الشراء؟ لفتة حنونة للبيئة التي تحتضر من الاستهلاك، أم مزيد من الثقة بالنفس، ويقظة تنم على اكتفاء وادراك للحقائق التي لا تحتاج الى البحث بقدر التفاتنا نحوها، حيث ان إصلاح هذه المنظومة يبدأ بقلب الأدوار من شخصيات تابعة ومتلقّيه إلى مستقلة وناقدة، فغياب المسؤولية الفردية، هو ما أفرغ الساحة الى الأقلّية لتحوير الرغبات إلى حاجات، حتى طمس الحد الفاصل ما بين الضرورة والرغبة، وأصبح مفهوما نسبًيا. ومن ثم بات غياب بعض الرغبات يوسم أصحابها بالفقر، رغم أنهم بعيدون عنه، فقد نجحت الشركات لأن تشغلنا وتوقعنا ضد بعضنا، حين أحكمت قبضتها على أرواحنا، وشّرعت لنا أسس الحكم على الآخرين حيث وجهت الرؤوس إلى الأقدام والأيدي، وكل ما هو خارجي، وهذا ليس مقام الإنسان، وإنما مكانته وحقيقته في العمق حيث الأفكار والنظرات فلا احد يكتشف الأشياء من سطحها سوى الحيوانات. 

هنالك عدة طرق للتعبير عن الذات والتواصل معها، الاستهلاك أجملها وايسرها، لكنه سبيل من لا يحسنون اكتشاف طرق أخرى لمعرفة انفسهم ومن حولهم.